البحث المتقدم

البحث المتقدم

الحُجِّيَّة الفاطِمِيَّة بين النَّصِّ والمَقام: قراءة فلسفية وعقائدية

0 تقييم المقال

يُعدّ حديثُ «كُلُّنَا حُجَجُ اللهِ على خَلقِه، وأمُّنَا فاطمةُ حُجَّةُ اللهِ علينا» من النصوص النادرة التي تتجاوز ظاهرها إلى أفقٍ فلسفيٍّ واسع، إذ يضع السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام في مرتبةٍ تتصل بالوساطة الكونية في نظام الهداية، وتفتح أمام الباحث أفقًا جديدًا في فهم مفهوم الحُجّة الإلهيّة بوصفه مقامًا جامعًا لمظاهر الكمال الإلهي في بعده الإنسانيّ الأنثويّ.

هذا الحديث لا يُدرَك بمعناه الظاهري فحسب، بل يتجاوز إلى عمقٍ لاهوتي وفلسفيّ يجعل من فاطمة الزهراء مركز إشعاع معرفي وروحي في منظومة الوجود.

ورُوي الحديث في عددٍ من المصادر المعتبرة مثل الخصال للشيخ الصدوق، وبحار الأنوار للمجلسي، والاحتجاج للطبرسي، بألفاظٍ متقاربة تُعزّز بعضها بعضًا.

ورغم اختلاف الأسانيد، فإنّ تواتر المعنى وتأييد النصوص القرآنية والحديثية لمضمونه يمنحه قبولًا علميًا في الدراسات العقائدية.

فالحديث يرسم ملامحَ مقامٍ خاصٍّ للزهراء يجعلها في موقعٍ يتجاوز النسق المألوف في الحُجج الإلهية.

ويُبرز الحديث مفهوم الحُجّة في ثلاثة مستويات مترابطة:

1. الحجّية الإلهية المطلقة التي تمثّلها الذات الإلهية وصفاتها.

2. الحجج المفوّضة من الأنبياء والأئمة الذين جعَلهم الله وسائط لهداية الخلق.

3. الحجّة الجامعة التي تتمثّل في السيّدة الزهراء عليها السلام بوصفها حجّةً على الحجج أنفسهم.

هذا الترتيب الفلسفي يعيد بناء الهرمية الكونية في ضوء مبدأ الكمال الجامع، فكما أنّ الوجود الإلهي هو الأصل الذي تتفرّع عنه سائر المراتب، فإنّ مقام فاطمة هو الجامع بين الظاهر والباطن، بين الروح المحمدية والنور العلوي، فهي مظهر الروح الجامعة التي تفيض منها الأسرار على سائر مقامات الولاية.

ومن هنا نفهم قول الإمام الصادق عليه السلام: «لولا فاطمة لما خلق الله محمداً وعلياً»، وهي إشارة إلى البعد الباطني في علاقة الوجود الإلهي بالتجلّي الأنثوي النوراني.

ففاطمة ليست مجرّد رمزٍ للأنوثة، بل هي الكينونة التي يتجلّى فيها سرّ الرحمة الإلهية وتمام الحكمة الوجودية.

وإنّ جعلها حجّةً على الأئمة يفيد تمام العصمة وكمال المعرفة، لأنّ الحجّة لا تكون إلا معصومة عالمة، ومن دون ذلك تنتفي الحُجّية.

فهي باب العلم الإلهي الذي يفيض منه النور إلى بقية الأئمة، كما أنّ النبيّ باب الله إلى الخلق.

وتُظهر النصوص الروائية أنّ الزهراء خُلقت من نورٍ قبل خلق آدم والأنبياء، قال النبي صلى الله عليه وآله: «خلقها الله من نوري، ونوري من نوره».

وهذا الامتداد النوري يجعلها محورًا بين الألوهية والخلق، فهي مظهر للأنوثة الكونية التي تُعبّر عن العطاء والرحمة والفيض.

إنها الأمّ الأولى التي بها يتحقّق التوازن بين التجلي والخلق، بين القوة والحنان، بين العلم والعاطفة، فهي الرحم الوجودي الذي أودع الله فيه سرّ الكمال الإنساني.

ورغم علوّ المقام النوراني، فإنّ الزهراء تمثّل نموذجًا بشريًّا في الكمال، جمعت بين العبادة والزهد والعلم والجهاد والرحمة.

وحين قال الإمام علي عليه السلام: «فاطمة بضعةٌ مني» فهو لا يصف القرابة الجسدية فحسب، بل يُشير إلى وحدة الرسالة في بعدها الإنسانيّ، حيث تجتمع فيها كلّ خصائص النبوّة والإمامة بمعناها الإنسانيّ الرفيع.

فحجّيتها ليست سلطةً تشريعية، بل مرجعية روحية وأخلاقية وإنسانية تُذكّر الأجيال بأنّ المرأة في الإسلام أصل في ميزان الكرامة والتكليف.

وفي الكتب السماوية السابقة إشارات رمزية إلى المقام الفاطمي، ففي سفر الأمثال وصفٌ للمرأة الفاضلة التي يقوم أولادها فيطوّبونها وزوجها يمدحها، وهي صورة رمزية للأنوثة المقدسة.

وفي سفر الرؤيا تظهر «امرأةٌ مُلبسةٌ بالشمس، والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر نجمًا»؛ وهي صورة عرفانية ترمز إلى الشمس المحمدية والقمر العلوي واثني عشر نجمًا هم الأئمة من ذريتها.

هذه الرموز تكشف وحدة النور بين الرسالات السماوية، حيث تمثّل الزهراء الأنثى القدسية الجامعة بين النبوة والولاية والرحمة.

وفي ضوء هذه المعاني تتجلّى الحقيقة الفاطمية كمرآة لأنوار الحقّ، ومصدرٍ لفيض العلم والعصمة والشفاعة.

فهي ليست مجرّد امرأةٍ عظيمة في التاريخ الإسلامي، بل هي الوجود الجامع الذي تجسّد فيه سرّ الخلق الإلهي، والرحمة المطلقة التي نزلت على العالمين.

إنّ حديث «كلّنا حجج الله على خلقه وأمّنا فاطمة حجّة الله علينا» يفتح أمام الفكر الإسلامي آفاقًا جديدة لفهم العلاقة بين المعرفة والأنوثة والعصمة، ويجعل من الزهراء عليها السلام ذروة الوعي الإلهي في الوجود الإنساني، ومركز الرحمة والفيض الإلهي في نظام الهدى.

 

وبذلك تكون الزهراء عليها السلام المحور الكوني للرحمة الإلهية والفيض الوجودي، الذي تتجلّى فيه صفات الجمال والكمال، ويشرق منها نور الرسالة والإمامة معًا، لتبقى مثالًا للأنوثة المقدسة والعقل الإلهي والرحمة الجامعة التي بها يستقيم ميزان الخلق.

المصادر والمراجع:

1. الصدوق، الخصال

2. المجلسي، بحار الأنوار

3. الطبرسي، الاحتجاج

4. الكليني، الكافي

5. السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن

6. السهروردي، حكمة الإشراق

7. الملا صدرا، الأسفار الأربعة

8. الإمام الخميني، الأربعون حديثًا

نعم
هل اعجبك المقال
مواضيع اخرى للناشر