تبدو دول أفريقيا المصنفة فرنكوفونيا، مقبلة على تحولات سياسية جذرية، فبعد انقلابات مالي وبركينا وفاسو وغينيا، وما أسفرت عليه من قطع علاقات هذه الدول مع فرنسا، وإخراج العسكريين الفرنسيين منها، واعتماد اللغة الإنجليزية كلغة أولى في مؤسساتهم التعليمية، مما فتح باب من المتغيّرات السياسية على الساحة الإفريقية، طفت على سطح السياسة توتّر جديد في العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا، أدّى إلى قيام الجزائر بطرد 12 دبلوماسيا فرنسيا، ولم تتأخر فرنسا عن المعاملة بالمثل، فقامت بطرد 12 من الدبلوماسيين الجزائريين من ممثلياتهم بفرنسا.
توتّر له دوافع تاريخية باستحقاقاته، قابل للتصعيد من الجانب الجزائري خصوصا، نظرا لبقاء ملفاتها عالقة دون حلّ من الجانب الفرنسي، حيث بقيت حكوماته المتعاقبة متجاهلة لها، دون أن تقيم لها اعتبارا، بدأ من حقبة الإستعمار وجرائمه، وما خلفته من ضحايا عُدّوا أكثر من مليون ونصف شهيد، اعتُبِروا رقما قياسيا على المستوى تضحيات الشعوب في العالم، في معركة تحرير جزائرية لا تزال نتائجها تسيل كثرا من الحبر والتعبير والمواقف، ويبدو أنّ فرنسا بسياساتها العدائية قد سلكت طريقا آخر، أرادت به إسدال الستار على استحقاقات جزائرية، طالما طالب به الشعب عاقدا بها العزم على طيّ صفحة سوداء من تاريخ فرنسا الإستعماري على أرضه، وتجاهل الحقوق الجزائرية من شأنها أن تُبقي على حالة من البرود في العلاقات حينا، وذهابها إلى التوتّر حينا آخر.
طيّ إرث يبدو ثقيلا على فرنسا باستحقاقاته القانونية، بحيث أنّه سيتضمّن - في حال الإعتراف به - تعويضات كبيرة، ذلك أنّ جرائم عساكرها طوال مدّة احتلالها للجزائر، كثيرة وفظيعة في نفس الوقت، ناهيك على تجاربها النووية التي أجرتها جنوبا في صحراء الجزائر، وجعلت من معتقلي الثورة الجزائرية فئران تجارب في تفجيراتها النووية، وفيما تصرّ الدبلوماسية الجزائرية على انهاء هذه الملفّات، بعد الحصول على اعتراف الجانب الفرنسي، يبدأ بتقديم إعتذار رسميّ على تلك الجرائم.
اعتذار تهرّبت منه فرنسا طوال السنوات الماضية، لأنّه يحمل استحقاقا قانونيا في التعويض عن تلك الجرائم المرتكبة من طرف عساكرها، دون أن ننسى ما سرقته قواتها من ذخائر وآثار الجزائر التاريخية، والتي يُرَى بعضها معروضا في المتاحف الفرنسية، وزائر متحف اللوفر بباريس بإمكانه أن يلاحظ تلك المسروقات معروضة في قاعات المتحف.
موقف الجزائر الثابت من قضايا الأمّة - خصوصا التحرّرية - وأوّلها قضيّة فلسطين والصحراء الغربية، جعلها تبقى تحت الضغط السياسي الفرنسي والغربي، نظاما مبدؤه معارضة السياسات التي يمارسها الغرب، وهو ما جعلها عرضة لانتقاداته، ومُعرّضة لمؤامرته المتكرّرة، لعلّ أخطرها ما يتهدد الجزائر أمنيا وعسكريا من جهة عملائه في المنطقة، أخصّ بالذكر منهم النظام الملكي المغربي، الذي ما فتئ يظهر عِداء يزداد يوما بعد آخر، بسبب موقف الجزائر الواضح والصريح بشأن استقلال جمهورية الصحراء الغربية عن الاستعمار المغربي، بعد أن استقلت عن الإستعمار الإسباني سنة ....
والنظام المغربي كما هو معروف قد باع كرامته بالتطبيع مع إسرائيل، مقابل اعتراف أمريكا وإسرائيل، ما سيزيد من حظوظه في نيل اعتراف شامل، بمغربية الصحراء الغربية من بقية دول العالم، خصوصا تلك التي ربطت سياساتها بالولاء والتبعية للمنظومة الغربية، في حين أنّ الجزائر بقيت سياستها ثابتة في موقفها من استقلال الشعب الصحراوي منذ أن غادرته القوات الاسبانية، وهي التي تقوم بدعم نضالاته السياسية والعسكرية، من أجل أن يتحرّر من طغمة حكم عميل للغرب ولإسرائيل، كما تحرّر من قبل من الإستعمار الإسباني.
لقد كان على اسبانيا من باب اللياقة والاعتراف بنضالات الشعب الصحراوي والاقرار باستقلاله، أن لا تلتزم بالصمت إزاء الغزو المغربي لمستعمرتها القديمة، ويبدو أن صمت اسبانيا مقابل صفقة جرت بينها وبين النظام المغربي في التخلّي نهائيا عن سبتة ومليلية المدينتين المغربيتين اللتين لا تزالان مستعمرتين من طرف الاسبان، ويبدو أنّ سكانها المغاربة رفضوا العودة إلى الحكم المغربي، وأصرّوا على ذلك في استفتاء معروف.
التوتّر بين المغرب والجزائر منشؤه الصحراء الغربية، ولم يكن شيء من ذلك قبل خروج الاسبان منها، فقد اجتمعت دول الجزائر وتونس والغرب وليبيا على تشكيل وحدة المغرب العربي انضمت اليه موريتانيا لاحقا، بدا في أوّله اتفاق سياسي استبشرت به شعوب المنطقة، وأمّلت في تحقيقه اقتصاديا وسياسيا، لكنها اكتشفت أنّه كان مجرّد حلم بقي بعيدا عن التجسيد، وعرضة بين الفينة والأخرى للتصدّع بين أركان حكمه، حتى على ما كان عليه من رمزية بقيت بلا نتيجة مرجوّة.
وفيما تتواصل حالة التوتّر في العلاقات المغربية الجزائرية، خصوصا بعد أن حلّ ركب التمثيل الصهيوني في الرباط، وظهور تعاون عسكري واضح وصريح بين النظامين، بمباركة أمريكية أوروبية، يبدو أن الأوضاع بين البلدين مرشّحة لمزيد من التوتّر الذي سيؤدي حتما إلى صدام عسكري تستعد القوى الغربية لإشعال نيرانه، ولإسرائيل وفرنسا هنا دور ومصالح في قدح شرارته،
فتجهّز النظام المغربي بصفقات أسلحة عسكرية متنوعة، قسم منها جاء عن طريق إسرائيل، عدوة القضية الفلسطينية والجزائر وتونس، وعمل هذا النظام على خلق مناخ من عدم الاستقرار الإجتماعي في الجزائر وتونس، بتنظيم موجات هجرة غير شرعية لمواطني دول جنوب الصحراء إليهما، أثارت شكوكا حول دوافعها، فيما يبدو أن لذلك علاقة بمخطط خبيث، يعمل على إيجاد حالة من عدم الاستقرار في تونس والجزائر، كشفته تقارير استخبارية جزائرية.
مخطط تدميري وتعجيزي لشعبينا العزيزين الجزائري والتونسي، وإرباك مسيرة نظامين وطنيين، بقيا متشبثين بحقوق الشعب الفلسطيني، وقضيّته العادلة في استقلاله من أسوأ استعمار عرفه التاريخ، وسط أجواء من تهافت دول عربية على التطبيع مع إسرائيل دون خجل من بيعها مصير أرض وشعب محاصرين يُنكّل بهما أشدّ تنكيل، فلا غرابة من فتح فرنسا بالتعاون مع اسرائيل وأمريكا بؤرة جبهة مواجهة عسكرية تبدو مرشّحة لأن تُفتح على مصراعيها، في صورة ما إذا لم يعد هناك عقلاء من الجانب المغربي، ولا اعتقد ذلك خصوصا بعدما سحب النظام المغربي سفيره من تونس، بسبب موقفها العقلاني من الصحراء الغربية، وهو موقف أجمعت عليه منظمة الوحدة الإفريقية، التي لم تعترف إلى اليوم بمغربية الصحراء الغربية، واعتبرت دخول المغرب إليها بعد خروج اسبانيا منها اعتداء واحتلالا جديدا، فيما يواصل شعب الصحراويّ نضاله من أجل أن يتخلّص من نظام مغربي، لم ينفع طبقات شعبه السفلى، فكيف به سينفع شعب الصحراء المسكين، وأرضه في نظر محتلّه الجديد غنيمة بما فيها.
الجزائر مستهدفة من دول الغرب، وهي تدفع ثمن مواقفها المناصرة لقضايا الحق كما تدفعه إيران، لأجل تفادي هذه الستهدافات يجب تشكيل تحالفات استراتيجية بين هذه الدول.