البحث المتقدم

البحث المتقدم

١١ ذو القعدة ١٤٤٦

يوم القيامة وضرورة المعاد.. دراسة عقائدية

الشيخ جعفر السبحاني

مقدمة

تتقاطع جميع الشرائع السماوية في التأكيد على الإيمان بالآخرة وضرورة الاعتقاد بالقيامة، حيث تناول الأنبياء - إلى جانب التوحيد - موضوع المعاد وعالم ما بعد الموت، وجعلوا الإيمان باليوم الآخر محورًا أساسيًا لدعوتهم، وفي الإسلام، يُعد الاعتقاد بالقيامة من أركان الإيمان التي لا يكتمل الدين إلا بها.

لقد طُرحت مسألة المعاد في الكتب السماوية السابقة، ولكنَّها وردت في القرآن الكريم بشكل أكثر وضوحًا وشمولية، حيث خصصت لها آيات كثيرة بأسماء متعددة، مثل يوم القيامة، يوم الحساب، اليوم الآخر، ويوم البعث.

ويعود هذا الاهتمام الكبير بمسألة القيامة إلى أن الإيمان بالله دون الإيمان باليوم الآخر يجعل التدين فاقدًا لثماره المرجوة، مما يستوجب التعمق في الأدلة التي تثبت ضرورة المعاد.

أدلة المعاد في القرآن الكريم

لقد أقام الحكماء والمتكلمون المسلمون أدلة عديدة ومتنوعة على ضرورة المعاد، مستلهمين استدلالاتهم من القرآن الكريم. ومن أبرز هذه الأدلة:

  1. الغاية من الخلق: حكمة الله تقتضي استمرار الحياة

   الله تعالى حقٌّ مطلق، وفعله كذلك حق، وهو منزه عن العبث واللغو. ولو خُلق الإنسان دون وجود حياة خالدة، لكان ذلك عبثًا يتنافى مع الحكمة الإلهية. يقول تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون: 115).

  1. العدل الإلهي يستوجب الجزاء العادل

   إن عدل الله يقتضي أن لا يُسوَّى بين المحسن والمسيء، وهو ما يستلزم وجود يوم للحساب تُفصل فيه أعمال العباد، لأن العدالة المطلقة لا تتحقق في الحياة الدنيا. يقول تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ (ص: 28).

3- استمرارية الخلق والبعث بعد الموت

   خلق الإنسان بدأ من ذرةٍ حقيرة ثم تطور في مدارج الكمال، حتى نُفِخت فيه الروح، مما يدل على أن الوجود لا ينتهي بالموت، بل هو مرحلة انتقالية إلى حياة أخرى. يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون: 14-16).

طبيعة المعاد: جسماني وروحاني

يؤكد القرآن الكريم والأحاديث الشريفة أن معاد الإنسان يشمل الجانبين الجسماني والروحاني:

-المعاد الجسماني: يعني أن الإنسان يُحشر ببدنه في النشأة الأخرى، وتعود إليه نفسه ليتلقى الجزاء، سواء كان ثوابًا أو عقابًا.

- المعاد الروحاني: يشير إلى أن الجزاء لا يقتصر على النعيم أو العذاب الحسي، بل يشمل أيضًا لذائذ وآلامًا روحية، مثل رضا الله الذي يُعد أعظم مكافأة للصالحين، كما في قوله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 72).

وكذلك الحسرة الشديدة التي تصيب المجرمين يوم القيامة، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (مريم: 39).

البرزخ: المرحلة الفاصلة بين الدنيا والآخرة

الموت ليس فناءً تامًا للحياة، بل هو انتقال إلى مرحلة وسطى تُعرف بالبرزخ، حيث يبقى الإنسان إلى قيام الساعة. وقد وردت إشارات قرآنية عديدة حول هذا العالم:

  1. حسرة المجرمين عند الموت

   عند احتضار الكافر ووقوفه على مصيره، يتمنى العودة إلى الدنيا، لكن طلبه يُردّ: ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ * لَعَلِّيٓ أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ (المؤمنون: 99-100). ولكن يُقال له: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون: 100).

  1. عذاب آل فرعون قبل القيامة

 تصف الآية حياة آل فرعون في البرزخ: ﴿ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ﴾ (غافر: 46)، مما يدل على أن العذاب يبدأ في البرزخ قبل يوم القيامة.

  1. حياة الشهداء بعد الموت

   يصف القرآن الكريم الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم، كما في قوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَٰتٌۢ بَلْ أَحْيَآءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: 154). وفي موضع آخر، يشير إلى فرحهم في العالم الآخر: ﴿فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ (آل عمران: 170).

خاتمة

إن الإيمان بالمعاد ركن أساسي من أركان العقيدة الإسلامية، وله تأثير عميق في حياة الإنسان وسلوكه، فقد أكد القرآن الكريم أن الحياة الدنيا ليست إلا مرحلة قصيرة، وأن الحساب والجزاء الحقيقيين سيكونان في الآخرة.

ومن هنا، فإن تأمل هذه الحقائق الإيمانية يدعو الإنسان إلى السعي لمرضاة الله والعمل الصالح، والتفكر في مآله الأبدي، كي يكون من الفائزين يوم الحساب.

 

مواضيع ذات صلة