لا شكّ أنّ حدثًا مثل الانتفاضة الشعبانية في العراق عام 1991م ليس بالحدث العابر، لذا فقد أخذ صدىً واسعًا في الوسط الثقافيّ والدينيّ والاجتماعيّ وذلك لما يحمله من أحداث وقصص وروايات وشواهد ووثائق جمّة، فضلاً عن أن بعض الأكاديميين اتخذوه مادة دراسية للحصول في الدراسات العليا.
إنّ الحدث برمته ما هو إلا احتجاج على وضع بلدٍ أنهكته حرب دامت لـ8 سنوات ومن ثمّ دخوله في حرب أخرى لا هدف من ورائها سوى تحقيق نزوة من نزوات القائد الضرورة، حتى أتت بنتائج مخيبةً للآمال، وهذا ما كان متوقّعًا سلفًا.
فبعد انكسار الجيش العراقيّ وخيبة الأمل التي مُنِيَ بها عند دخوله الكويت، وقفل راجعًا إلى بلاده منهكًا على المستوى النفسيّ بالدرجة الأولى، والمستوى المادّيّ كقوة عسكرية كان لها موقعها بين القوى العسكرية العالمية، سبَّبَ ذلك صدمةً كبرى لدى الجنود العراقيين ولدى الشعب أيضًا، فظروف الحرب لا تأتي بثمارٍ يانعة بل تأتي بويلات وحرمان وفقرٍ ووو والشواهد على ذلك كثيرة، هذه الصدمة لم تبقَ حبيسة صدور الجيش العراقيّ والشعب، بل نفثها أحد الجنود العراقيين عندما وصل إلى البصرة وهو بحال يُرثى لها، فتوجه إلى جدارية تحمل صورة القائد الضرورة ورشقها بعدة رصاصات وانهال عليها بالسبّ والقذف والشتم لِمَا آل إليه الجيش بعد دخوله الكويت، هذا الموقف أثار حفيظة من أحاط به من الناس التي كانت في ذلك الموقف فجعلهم يطلقون صرخاتهم وحسراتهم مع هذا الجندي الناقم على السلطة، ومن هنا بدأ الحدث الذي عمّ البلد وهو الانتفاضة الشعبانية التي تُعدّ انتفاضة شعب ضدّ سلطة جائرة.
لا نريد الإسهاب في هذه الحدث كثيرًا لأنّ المقال يدور حول محور مهمّ وهو دور المرجعية الدينية في مثل هذه الأحداث.
الانتفاضة انتشرت كالنار في الهشيم وعمّت الكثير من محافظات العراق ولا سيما محافظات الوسط والجنوب، وبدأ الصِدَام بين المنتفضين وبين السلطويّين _البعثيّين ورجال الأمن وغيرهم- حتى وصل هذا الحدث إلى محافظة النجف الأشرف مركز الحوزة العلمية والعلماء ومركز المرجعية الدينية.
حدثت في النجف أحداث جمّة وبعضها خطيرٌ جدًا إلّا أنّ المنتفضين لم تأخذهم العزّة بالأمر، بل آثروا أن تتدخّل المرجعية الدينية في الوضع الذي وصلت إليه النجف آنذاك؛ إذ دخلت النجف في حالة من الفوضى وغياب السلطة والخدمات، وهذا يحتاج إلى شيء من الاحتواء والإرشاد من ذوي الحلّ والعقد، لذلك توجّه المنتفضون إلى السيّد الخوئي قدّس سرّه كونه المرجع الأعلى في ذلك الحين، والشخصية الأكثر تأثيرًا في المجتمع، ليسترشدونه في حلحلة الوضع وإيجاد الحلول له.
مرّ يومان على استمرار الانتفاضة والسيطرة على مواقع ومؤسسات حكومية من قبل المنتفضين ما نتج عن ذلك إطلاق سراح المعتقلين في سجون النظام من السياسيين وغيرهم لا سيما بعد أن انتشرت شائعات بشأن وجود سجون سريّة في أماكن متفرّقة من المدينة.
كان للمرجعية الدينية آنذاك بزعامة السيّد الخوئيّ دور في الانتفاضة الشعبانية، فقد شرّع السيّد انتفاضة الشعب العراقيّ ضدّ النظام البعثيّ، ووقف هو نفسه إلى جانب الحركة الشعبية والثورة، وبعد يومين من بداية الانتفاضة في النجف، أصدر بيانًا أكّد فيه على الالتزام بالأحكام الشرعيّة، وعدم المساس بأموال الشعب وبيت المال، ودفن الجثث التي بقيت في الشوارع، وعدم التمثيل بها، إضافة إلى بعض الموادّ والأحكام الأخرى. وهذا نصّ البيان:
(بسم الله الرحمن الرحيم
أبنائي الأعزاء المؤمنين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله على نعمه وآلائه والصلاة والسلام على أفضل أنبيائه محمّد وعترته الأطهار وبعد، لا شكّ في أن الحفاظ على بيضة الإسلام ومراعاة مقدساته أمر واجب على كل مسلم وإنّني بدوري إذ أدعو الله تبارك وتعالى أن يوفقكم لما فيه صلاح الأمة الإسلامية.
أهيب بكم أن تكونوا مثالًا صالحًا للقيم الإسلامية الرفيعة برعاية الأحكام الشرعية رعاية دقيقة في كل أعمالكم، وجعل الله تبارك وتعالى نصب أعينكم في كل ما يصدر منكم، فعليكم الحفاظ على ممتلكات الناس وأموالهم وأعراضهم، وكذلك جميع المؤسسات العامة لأنها ملك الجميع والحرمان منها حرمان للجميع. كما أهيب بكم بدفن جميع الجثث الملقاة في الشوارع وفق الموازين الشرعية، وعدم المثلة بأحد، فإنّها ليست من أخلاقنا الإسلامية، وعدم التسرّع في اتخاذ القرارات الفردية غير المدروسة والتي تنافي والأحكام الشرعية والمصالح العامة.
حفظكم الله ورعاكم ووفقكم لما يحبّ ويرضى إنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في 18 شعبان 1411 هـ
الخوئيّ
الختم)
ولو أنعمت النظر عزيزي القارئ في البيان أعلاه تجد أنّ السيّد الخوئيّ قدّس سرّه رغم وقوفه إلى جانب المنتفضين إلّا أنّه لم يسمح لهم ولا لمن يساعدهم من أن يكونوا مخربين وعابثين بل أن يكونوا مثالاً صالحًا للقيم، والحفاظ على ممتلكات الناس وأموالهم وأعراضهم، وكذا الحفاظ على المؤسسات العامة لأنّها ملك عام.
وهنا يجب أن نقف قليلاً عند هذه النقطة فالبعض ما زال يعتقد أنّ المؤسسات في ذلك الحين كلها تابعة للبعث ولصدام وإحراقها أو إتلافها أو تدميرها أمر طبيعي انتقامًا من السلطة، في حين أن الأمر ليس كذلك؛ لأنّ المؤسسات هي للشعب وللدولة وليست للسلطة بمعنى أنّ المستشفى على سبيل المثال هي للشعب وليست لصدام وأعوانه وهذا يقودنا إلى أنّ السيّد الخوئيّ قدّس سرّه كان ينظر إلى ذلك بنظرة واسعة وواعية لا كما ينظر إليها ذوو النظرة القصيرة الساذجة، فرغم وقوفه مع المنتفضين إلّا أنّه يوصيهم بأن يكونوا على قدر من الانضباط والأخلاق.
وعلى إثر ذلك أصدر السيّد الخوئي بيانًا آخر إلى مجموعة من العلماء اقترح فيه تشكيل لجنة شعبية بإشرافه تقوم مقام الدولة في رعاية الناس ومساعدة المحتاجين حينذاك، وهذا نصّ بيان تشكيل اللجنة:
(بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وبه نستعين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين... وبعد: فإنّ البلاد تمرّ في هذه الايام بمرحلة عصيبة تحتاج فيها إلى حفظ النظام واستتباب الأمن والاستقرار والإشراف على الأمور العامة والشؤون الدينية والاجتماعية تحاشيًا من خروج المصالح العامة عن الإدارة الصحيحة إلى التسيُّب والضياع.
من أجل ذلك نجد أنّ المصلحة العامة للمجتمع تقتضي هنا تعيين لجنة عُليا تقوم بالإشراف على إدارة شؤونه كلها بحيث يمثل رأيها رأينا، وما يصدر عنها يصدر عنا، وقد اخترنا لذلك نخبة من أصحاب الفضيلة العلماء المذكورة أسماؤهم أدناه ممّن نعتمد على كفاءتهم وحُسن تدبيرهم، فعلى أبنائنا المؤمنين اتباعهم وإطاعتهم والانصياع إلى أوامرهم وإرشاداتهم ومساعدتهم في إنجاز هذه المهمة.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفقهم لأداء الخدمة العامة التي ترضيه سبحانه وتعالى ورسوله (ص).
الله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
- السيّد محيي الدين الغريفيّ
- السيّد محمّد رضا الموسويّ الخلخاليّ
- السيّد جعفر بحر العلوم
- السيّد عز الدين بحر العلوم
- السيّد محمّد رضا الخرسان
- السيّد محمّد السبزواريّ
- الشيخ محمّد رضا شبيب الساعديّ
- السيد محمّد تقي الخوئيّ
النجف الأشرف في العشرين من شهر شعبان المعظم سنة 1411هـ
ملحوظة: لقد تقرّر إضافة السيّد محمّد صالح والسيّد عبد الرسول الخرسان إلى اللجنة المذكورة أعلاه.
في 21 شعبان 1411هـ
الخوئي)
ومن ذلك يتبيّن لك أيّها القارئ أنّ المرجعية الدينية لم تقف موقف المتفرّج أو المنعزل عمّا يحدث في المجتمع، بل تتدخّل عندما تتأزّم الأمور خوفًا من إلحاق الضرر بالمجتمع، ولو أمعنت النظر في البيان لوجدت أنّ السيّد قدّس سرّه صبّ جلّ همّه على حفاظ الأمن والاستقرار والاهتمام بمصالح الناس والمصالح العامة.
ومن هنا نرى موقف المرجعية الدينية تجاه احتواء الأزمات ووضع الحلول لها.