يخطئ من يظن أن الفلسطينيين كانوا على مدى العقود الماضية، يعيشون في ظل سياسات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك أياماً ورديةً وسنواتٍ زهريةً، وأنهم كانوا يتمتعون بكامل حقوقهم المدنية والدينية في المدينة والمسجد، وكانوا يدخلون المسجد دون عقبات، ويصلون فيه دون إزعاجٍ، ويعتكفون فيه متى أرادوا، كيف لا وحكومات الكيان الصهيوني تعلن دائماً أنها دولة ديمقراطية، وأنها تحترم الأديان، وتحرص على حرية العبادة، وتحافظ على الوضع القانوني والتاريخي لمدينة القدس والمسجد الأقصى، ولا تسعى لتغييرهما، أو فرض وقائع جديدة فيهما، وترفض محاولات المساس بحرية المصلين أو التدخل في طقوسهم الدينية.
الحقيقة هي غير ذلك تماماً، فمعاناة الفلسطينيين في مدينة القدس والمسجد الأقصى لم تبدأ هذا العام فقط، ولم تفرض عليهم هذه الشروط القاسية في ظل هذه الحكومة بالذات، التي تشارك فيها الصهيونية الدينية بقطبيها المتشددين، اللذين لا يترددان في التعبير عن مواقفهما العدوانية والتصريح عن سياساتهما المتطرفة تجاه الفلسطينيين عموماً، علماً أنهما، بن غفير وسموتريتش، يعبران عن سياسة الحكومة كلها، ويمثلان رئيسها الذي يؤمن بأفكارهما ويتبنى سياستهما، ويدعم من خلال المصادقة على اتفاقياته معهما ما يقومان به من إجراءاتٍ قاسية بحق الفلسطينيين، بل ويشجعهما عليها ويدافع عنهما ويحميهما.
فالشعب الفلسطيني يعاني منذ احتلال الشطر الشرقي لمدينة القدس، ودخول جيش العدو إلى باحات المسجد الأقصى عام 1967، من ممارسات سلطات الاحتلال القاسية بحقهم، التي لم تُخفِ منذ اليوم الأول لدخولها المدينة والمسجد، نيتها توحيد مدينة القدس، وإعلانها عاصمة أبدية موحدة لكيانهم، وعزمها طرد الفلسطينيين منها، وحرمانهم من حقهم في الإقامة والعمل فيها، وفي المقابل باشرت بمصادرة أراضيهم وبنت عشرات المستوطنات عليها، وضاعفت أعداد المستوطنين فيها، وخططت لبناء مدينة القدس الكبرى على حساب الأحياء العربية فيها، ونقلت إليها كافة مؤسساتها السيادية، وطالبت دول العالم المختلفة بنقل سفاراتها إليها.
لم يشعر الفلسطينيون يوماً منذ الاحتلال حتى اليوم بأي شكلٍ من أشكال الراحة والاطمئنان في مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك، فهم دائماً يعانون من ممارسات الجيش والشرطة، ويتأذون كثيراً من استخدامها للقوة المفرطة ضدهم، فقد قتل على أيديهم مئات الفلسطينيين من الرجال والنساء والأطفال في باحات المسجد الأقصى وعلى بواباته، قبل وبعد أن عدلت الحكومة الإسرائيلية من ضوابط استخدام القوة ومعايير إطلاق النار على الفلسطينيين، حيث أصبحت عناصر الشرطة وجنود الجيش يطلقون النار ببساطةٍ ودون وجود مبررات ومسوغاتٍ لذلك، ما أدى إلى استشهاد عشرات الفلسطينيين، وترك المصابين منهم على الأرض ينزفون لساعاتٍ طويلة، دون السماح بتقديم أي إسعافاتٍ لهم، مما يؤدي غالباً إلى استشهاد العديد منهم.
كما يشتكي الفلسطينيون من استفزازات المستوطنين وغلاة المتشددين، الذين لا يتوقفون عن محاولات اقتحام المسجد وانتهاك حرمته، وتدنيسه وتأدية طقوسهم فيه، وهم لا يكتفون بالزيارة التي يدعون، بل باتوا يطالبون باقتطاع أجزاء منه، والصلاة فيه، وأداء السجود الملحمي، وأخيراً باتوا يخططون إلى تقديم القرابين وذبح "السخلان" فيه، وخلال عمليات الاقتحام التي يرعاها الجيش وتحميها الشرطة وتنظمها الحكومة، لا يترددون في إطلاق النار على الفلسطينيين، بحجة تعرضهم للخطر، أو اشتباههم بأن بعضهم يحملون سلاحاً أو أدواتٍ حادةً قد تعرض حياتهم للخطر.
ويتألمون كثيراً من ممارسات سلطات الاحتلال التي لا تسمح لهم بحرية الدخول إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه، رغم علمهم أنه يعتبر في دينهم الإسلامي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وأن القرآن الكريم قد نص عليه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حض على شد الرحال إليه، بياناً لمكانته وتأكيداً على قدسيته، ورغم ذلك فإنهم يتعمدون وضع العراقيل أمامهم، وفرض الشروط عليهم، والحيلولة دون وصولهم إلى مدينة القدس تمهيداً للدخول إلى المسجد.
علماً أن المصلين لا يشكلون خطراً عليهم، ولا يحملون سلاحاً يهددهم، ولا يغادرون صحن المسجد أو باحاته، إلا أن سلطات الاحتلال تتهمهم وتحاربهم في طقوسهم الدينية السلمية، وتضيق عليهم وتمنعهم من أدائها، وتعتدي عليهم بالضرب والإساءة، وتهين المصلين، وتركل الساجدين، وتدوس على أجسادهم، وتطلق عليهم قنابل الغاز المسيلة للدموع، التي تكاد تخنقهم بالنظر إلى أن المسجد مغلق، والغاز المسيل للدموع يبقى فيه مركزاً وقد يخنقهم.
يدرك الفلسطينيون أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تريد انتزاع المسجد الأقصى منهم، وتتطلع إلى أن تستولي عليه وحدها دونهم، فهم يرونه جبل الهيكل، والمكان الأكثر قدسيةً بالنسبة لهم، ولعلها غير نادمة على حرقه بل تتمنى زواله، وهي وإن كانت تعلن أنها تسعى إلى تقسيمه مكانياً وزمانياً، فهي تتطلع إلى أخذه بالكامل والسيطرة عليه كلياً، ولكنها تريد أن تتدرج في الأهداف، وأن تمهد لها خشية الصدمة وردود الفعل العنيفة من الفلسطينيين خصوصاً ومن العرب والمسلمين عموماً.
لكن هبة الفلسطينيين وصمود المقدسيين، وردود فعل العرب والمسلمين، وموجات الغضب المتصاعدة، وتزايد عمليات المقاومة، والتهديد بقصف الكيان وفتح الجبهات المتعددة ضده، وحدها التي ستدفع حكومة الكيان إلى التراجع والانكفاء، حيث لا يردعه شيءٌ كالقوة، ولا يجبره شيءٌ على التراجع سوى ارتفاع الكلفة، ولا يدفعه إلى تحريك الوسطاء وطلب المساعدة سوى إحساسه أن المقاومة جادةٌ، وأن قرارها ناجزٌ، وأن سلاحها جاهزٌ وقادرٌ.